عن هزاع المجالي

النشأة والبدايات:

ينحدر هزّاع من قبيلة المجالي، التي تمتعت بالزعامة في منطقة الكرك لِفترة تزيد على قرنين من الزمن. وقد آلت الزعامة إلى هذه القبيلة بفضل الحنكة والشجاعة والمرونة السياسية التي اتصف بها شيوخها. وتحفل كتب الرحّالة الذين زاروا الكرك في أثناء القرن التاسع عشر بالحديث عن هذه القبيلة وزعمائها، والسطوة التي تمتع بها أولئك الزعماء. وكان بركات، والد هزّاع، شيخًا مرموقًا، التحق بقوات الثورة العربية عند وصولها إلى الطفيلة، وكان من القلائل بين أهل الكرك الذين أقدموا على الالتحاق بالثورة.

وُلد هزّاع عام 1918 في مضارب أخواله من عشيرة الونديين في ماعين، بمحافظة مأدبا، حيث كان والده آنذاك مشاركًا في جيش الملك فيصل الأول، وكانوا في طريقهم لتحرير سوريا. ولم تكن تلك المشاركة مجرد موقف عابر، بل شكّلت أساسًا متينًا في تكوين الوعي القومي داخل الأسرة، وانتقلت بروحها إلى الأجيال التالية، وعلى رأسها هزّاع. و في تلك المرحلة في ماعين، عاش هزاع عند جده وجدته من الونديين، وهي إحدى عشائر البلقاء المعروفة، حيث وجد بيئة محافظة ومتشبعة بالقيم العشائرية الأصيلة، والإيمان بأهمية الأرض والهوية والانتماء. هناك، في أجواءٍ بسيطة ولكن مفعمة بالكرامة والعزة، تشكّل وعيه الأول، وتفتّحت مداركه على معاني التضحية والالتزام والمسؤولية.

وقد كان لهذه النشأة أثر بالغ في تكوين شخصيته لاحقًا، إذ تربّى في وسط يُعلي من شأن العلم، ويقدّر الانتماء الوطني والقومي، ويزرع في أبنائه روح القيادة والمبادرة. فانعكست تلك القيم في سلوك هزّاع، الذي حمل منذ بواكير شبابه همّ الوطن، وكرّس حياته لاحقًا في سبيل بناء الدولة، والدفاع عن كرامتها، وتعزيز هويتها العربية. إنّ هذه المرحلة المبكرة من حياته لم تكن مجرد تفاصيل زمنية، بل كانت بمثابة التربة التي نمت فيها شخصيته السياسية، وشكّلت الإطار المرجعي الذي انطلق منه في مختلف محطاته الوطنية والقيادية.

وبعد ذلك، وفي سنّ العاشرة، نقله والده إلى بلدته (الربة)، الواقعة بالقرب من مدينة الكرك

التعليم:

بعد انتقال هزّاع إلى بلدته الربة في محافظة الكرك ، التحق بالمدرسة الحكومية فيها، وفي السنة التالية انتقل إلى مدرسة الكرك، حيث بدأ يتلقى علومه حتى نهاية الصف الثاني الثانوي. وقد كان الأول على صفه والعريف على زملائه طوال سنوات دراسته في الكرك، حيث تجلّت موهبته وذكاؤه، وهو ما أكده زملاؤه لاحقًا من خلال شهاداتهم عن تلك المرحلة. كما يمكن ملاحظة بعض آثار إبداعه في الكتابات والمقالات المعروضة داخل مدرسة الكرك الثانوية حتى يومنا هذا. ولما كانت مدرسة السلط الثانوية هي المدرسة الكاملة الوحيدة في شرق الأردن آنذاك، انتقل إليها هزّاع ليُكمل العامين الأخيرين من دراسته الثانوية، وتخرج فيها عام 1938.

لم يلتحق هزّاع بالجامعة مباشرة بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، بل عمل لفترة في دائرة الأراضي والمساحة، ثم قدّم استقالته. وما لبث أن التحق مجددًا بخدمة الحكومة كاتبًا في محكمة الصلح بمدينة مأدبا، حيث أمضى في هذه الوظيفة ثلاث سنوات ونيف، قبل أن يستقيل مرة أخرى. ويبدو من هذا المسار أن هزّاع لم يجد في أي من هاتين الوظيفتين ما يُرضي طموحه، فعاد إلى الكرك ليعيش واحدة من أصعب الفترات التي مرّت في حياته. لكنّ عزيمته سرعان ما تغلّبت على شعوره بالإحباط، فاستعاد طبيعته الطموحة، وعقد العزم على استكمال دراسته. فالتحق بجامعة دمشق، حيث قضى ثلاث سنوات فيها وتخرّج منها حاملًا شهادة الحقوق. وخلال تلك الفترة، تزوّج من سميحة، ابنة عمّه رفيفان باشا.

البدايات المهنية:

قبل أن يُكمل دراسته الجامعية، التحق هزّاع بوظيفة في دائرة الأراضي والمساحة، لكنه لم يلبث أن استقال منها بعد فترة قصيرة. ثم عاد إلى الخدمة الحكومية، حيث عُيّن كاتبًا في محكمة الصلح بمدينة مأدبا، وقضى في هذا المنصب أكثر من ثلاث سنوات. وبعد ان تخرج من الجامعة، مارس هزاع مهنة المحاماة في مدينة الكرك فترة من الزمن، برز خلالها ميله إلى العمل السياسي وطموحه للمشاركة في الحكم. والتقت طموحاته مع طموحات عدد من الشباب الأردنيين الذين كانوا يرون في أنفسهم المقدرة على إشغال مناصب مهمة في جهاز الحكومة، ويرون أنهم لهم الأحقية بذلك، مثلهم مثل أولئك الذين جاءوا سابقاً من خارج الأردن. وقد أعتقل ذات يوم بسبب تفجير مفرقعات في عمان، ثم استدعاه الملك عبدالله الأول معاتباً اياه، وما لبث الملك حتى استدعاه مرة اخرى وامر بتعيينه موظفاً في التشريفات الملكية في الديوان الملكي.

زيارة ميدانية

الانخراط في العمل العام:

يُعدّ تعيين الملك عبد الله الأول لهزّاع المجالي في دائرة التشريفات الملكية في الديوان الملكي عام 1947 أولى محطاته في العمل السياسي القريب من مركز القرار، وبداية لانخراطه في الشأن العام. وقد أُتيحت لهزّاع، من خلال هذا الموقع، فرصة العمل المباشر مع الملك، الذي قرّبه منه ومنحه ثقته، حتى أصبح موضع حظوة وتقدير.

ولم يمضِ وقت طويل حتى عُيِّن رئيسًا لبلدية عمّان في أيلول 1948، وهو المنصب الذي شهد خلاله تحولات إدارية وخدمية مهمّة في المدينة، واستمر فيه حتى عام 1950. وقد منحه الملك عبد الله الأول قلادة ذهبية نُقشت عليها العبارة التالية:
قلادة تقدير تُهدى إلى رئيس بلدية عمّان هزّاع المجالي، وتبقى لأخلافه الرؤساء من بعده.”
ولا تزال هذه القلادة محفوظة في أمانة عمّان الكبرى، ويضعها الأمناء في أعناقهم في المناسبات الرسمية.

بعد ذلك، شارك هزّاع في الحكومة التي ألّفها سمير الرفاعي، حيث شغل منصب وزير الزراعة، ثم وزير العدلية. لكن عمر تلك الوزارة لم يطل، إذ لم يتجاوز السبعة أشهر، بسبب اغتيال الملك عبد الله في القدس عام 1951.

في عهد الملك طلال، خاض هزّاع الانتخابات النيابية وفاز عن منطقة الكرك، ثم افتتح مكتبًا للمحاماة في عمّان بالاشتراك مع زميله في المجلس، أحمد الطراونة. وقد برهن في مجلس النواب على حنكة سياسية ومهارة في معالجة القضايا الحساسة والمعقدة.

في عام 1953، شارك هزّاع في حكومة فوزي الملقي وزيرًا للداخلية، وهي الحكومة التي عملت على إطلاق الحريات العامة، والإفراج عن المعتقلين، وتعديل القوانين الاستثنائية. وعندما تسلّم وزارة الداخلية، بادر إلى الإفراج عمّن تبقّى في معتقل الجفر الصحراوي، حتى أعلن مجلس النواب آنذاك أن أبواب المعتقل أُوصدت، ولم يبقَ فيه أي سجين.

وبعد استقالة وزارة الملقي عام 1954، شارك هزّاع مع عدد من السياسيين والنواب في تأسيس الحزب الوطني الاشتراكي، الذي اعتُبر أحد أحزاب اليسار المعتدل، إذ جمع بين الرؤية التقدمية والانتماء الوطني. وقد اختاره زملاؤه أمينًا للسر. ووقف الحزب، الذي ضمّ ثلاثة عشر نائبًا، في صفوف المعارضة، حتى بلغت هذه المعارضة من القوة أن غالبية أعضاء المجلس النيابي قرروا حجب الثقة عن حكومة توفيق أبو الهدى. لكن أبو الهدى استبق هذا الموقف، فاستصدر إرادة ملكية بحلّ المجلس النيابي في 22 حزيران 1954.

خاض هزّاع الانتخابات اللاحقة، وفاز مجددًا بمقعد نيابي. ورغم خصومته السياسية مع أبو الهدى، وعضويته في الحزب الوطني الاشتراكي، إلا أنه وجد نفسه مضطرًا للمشاركة في حكومة أبو الهدى وزيرًا للعدلية. وقد برّر ذلك لاحقًا في مذكراته، مشيرًا إلى أن الاستجابة للرغبة الملكية كانت العامل الحاسم في قراره. وعلى إثر هذه الخطوة، استقال من الحزب الوطني الاشتراكي، معتبرًا أن الجمع بين عضويته الحزبية والوزارة أمر لا ينسجم مع مبادئه.

وفي نيسان 1955، شارك هزّاع في مؤتمر باندونغ، الذي انعقد بمشاركة عدد من دول آسيا وإفريقيا، ويُعد أول مؤتمر لدول عدم الانحياز. ولم تمضِ فترة طويلة على عودته حتى قدّم استقالته من الحكومة، مبررًا ذلك بقوله إن “كثيرًا من التصرفات التي اكتنفت سير العمل الوزاري قد أضرّت بهيبة الحكم وكرامته، وأسـاءت إلى سمعـة الحكومة بمجمـوعهـا.”

وعند تشكيل حكومة دولة سعيد المفتي الثالثة في 30 أيار 1955، عُيّن هزّاع وزيرًا للداخلية، وبقي في منصبه حتى استقالة الحكومة في 14 كانون الأول 1955.

بعدها، شكّل هزّاع حكومته الأولى في عهد الملك الحسين بن طلال، والتي امتدت من 15 كانون الأول إلى 20 كانون الأول 1955، وشغل فيها مناصب رئيس الوزراء، ووزير الخارجية، ووزير الاقتصاد. وقد كانت من أقصر الحكومات عمرًا في تاريخ المملكة.
للاطلاع على ظروف تشكيل الحكومة اضغط هنا  حكومة هزاع الأولى 

وعند وقوع أحداث بالغة الخطورة في عامي 1957 و1958، كحادثة انقلاب العراق، وتشكيل الوحدة بين مصر وسوريا، وتصاعد الهجوم السياسي والإعلامي على الأردن والملك الحسين، برزت الحاجة إلى قيادات وطنية تتّسم بالحكمة والاتزان. فدُعي هزّاع المجالي لأداء دوره كأحد رموز الاعتدال والاستقرار. فتم تعيينه وزيرًا للبلاط الملكي الهاشمي في 2 آب 1958، ثم كُلّف بتشكيل الحكومة للمرة الثانية في أيار 1959، واستمر في رئاستها حتى استشهاده في آب عام 1960.

للاطلاع على ظروف تشكيل الحكومة اضغط هنا: حكومة هزاع الثانية

السمات الشخصية:

تميّز هزّاع المجالي بذكاء سياسي حاد وبصيرة ثاقبة، مكّنته من فهم التوازنات الدقيقة التي تحكم المشهدين المحلي والإقليمي في مرحلة شديدة الاضطراب من تاريخ المنطقة. لم يكن مجرّد موظف في الدولة أو رجل سياسة تقليدي، بل كان قائدًا يتمتع بكاريزما استثنائية تجمع بين الحزم في المواقف، والمرونة في إدارة الخلافات، وهي سمات جعلته محلّ ثقة الملوك، واحترام خصومه السياسيين قبل أنصاره. وقد عرف عنه قدرته الفائقة على التفاوض، وحنكته في تهدئة الأزمات، سواء على مستوى الداخل الأردني أو في محيطه العربي، إذ كان من القلائل الذين يجمعون بين الانتماء العشائري الأصيل، والانفتاح على العمل المدني والحزبي والحكومي. وقد ساعده في ذلك امتلاكه شبكة واسعة من العلاقات المتينة مع زعماء القبائل ووجهاء العشائر، وقادة الجيش، ورجال الإدارة، وقطاعات النخبة السياسية والمثقفة، ما جعله همزة وصل فريدة بين مراكز النفوذ التقليدية والحديثة في البلاد.

كان هزاع وفيًا للعرش الهاشمي، إيمانًا منه بشرعية الحكم وتاريخه ودوره القومي، لكنه في الوقت ذاته لم يتردد في التعبير عن مواقفه النقدية عند الحاجة، فكان الإخلاص بالنسبة له لا يتنافى مع الصراحة ولا مع الشجاعة الأدبية. وقد أخلص في الدفاع عن استقلال الأردن ووحدته، وحرص على صون كرامة الشعب الأردني في مواجهة الضغوط والتدخلات الخارجية، مؤمنًا بأن الدولة لا تُبنى على الولاءات العابرة، بل على الثقة بالمؤسسات، والعدل، واحترام كرامة المواطن.

كما كان صاحب شخصية محبوبة، قريبة من الناس، متواضعًا رغم المناصب التي تقلّدها، لا يتكلف في حضوره، ولا يتعالى على البسطاء. ترك انطباعًا عميقًا لدى كل من عمل معه أو اقترب منه، بما امتلكه من صدق في القول، وثبات في الموقف، ودماثة في الخلق. ومما يُروى عنه أنه كان يفضّل أن يسمع أكثر مما يتكلم، ويعطي لكل صاحب رأي فرصة لعرض وجهة نظره، دون أن يقاطعه أو يتسرع في إصدار الأحكام.

لقد شكّلت هذه السمات مجتمعة شخصية رجل دولة نادر، آمن بأن الاستقرار لا يتحقق إلا بالحوار، وبأن القوة الحقيقية تكمن في العدل، لا في البطش، فاستحق أن يبقى اسمه حاضرًا في الذاكرة الوطنية، وأن يُعدّ أحد أعمدة الحكم والسياسة في التاريخ الأردني الحديث.

المناصب التي شغلها الشهيد

وزير الزراعة في حكومة دولة السيد سمير الرفاعي الثالثة في الفترة من 4 كانون الأول 1950 إلى 24 آذار 1953

وزير العدلية في حكومة دولة السيد سمير الرفاعي الثالثة في الفترة من 24 آذار 1953 إلى 25 تموز 1951

وزير الداخلية في حكومة دولة الدكتور فوزي الملقي في الفترة من 5 تشرين الثاني 1953 إلى 2 أيار 1954

وزير العدلية والقائم بأعمال قاضي القضاة في حكومة دولة السيد توفيق أبو الهدى الثانية عشر في الفترة من 24 تشرين الأول 1954 إلى 17 أيار 1955

وزير الداخلية في حكومة دولة السيد سعيد المفتي الثالثة في الفترة من 30 أيار 1955 إلى 14 كانون الأول 1955

مجلس الاعمار (وزارة التخطيط حاليا) في 1958

وزيرًا للبلاط الملكي الهاشمي في 2 آب 1958

شكّل حكومته الأولى في الفترة من 15 كانون الأول 1955 إلى 20 كانون الأول 1955 وشغل فيها منصب رئيس الوزراء ووزير الخارجية والاقتصاد

شكّل حكومته الثانية في الفترة من 6 أيار 1959 إلى 28 آب 1960 وشغل فيها منصب رئيس الوزراء ووزيرا للخارجية.

الشهيد هزاع المجالي

حادثة الاغتيال

في تمام الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الإثنين، التاسع والعشرين من آب عام 1960، دوّى انفجار مروّع هزّ أرجاء مبنى رئاسة الوزراء الواقع في شارع السلط، بالقرب من وزارة الصحة. وكان رئيس الوزراء، الشهيد هزّاع المجالي، يمارس عادته الأسبوعية في استقبال المواطنين كل يوم اثنين، حيث يفتح بابه لتلبية مطالبهم والاستماع إلى قضاياهم، في مشهدٍ يجسد التواضع والمسؤولية الوطنية.

غير أن يد الغدر امتدت في تلك اللحظة، لتضع حدًا لحياة أحد أبرز رجالات الدولة الأردنية، حيث أودى الانفجار بحياة هزّاع المجالي، إلى جانب عدد من كبار المسؤولين والمواطنين الذين كانوا في المبنى. ومن بين الضحايا: زهاء الحمود، أمين عام وزارة الخارجية، وعاصم التاجي، وممدوح إسحاقات، مدير مكتب الرئيس، بالإضافة إلى عدد من المواطنين، منهم شيخ مشايخ الكرك، جمال اعطوي المجالي، ومحمد سلامة المجالي، وطفلٌ لم يتجاوز العاشرة من عمره، جاء إلى مكتب الرئيس يحمل رجاءً صغيرًا وأملًا في مساعدةٍ ما، فقضى شهيدًا في لحظةٍ لم تكن في حسبان أحد.

وقد نجا من الحادث بأعجوبة عدد من الحاضرين، من بينهم زيد الرفاعي، الملحق الدبلوماسي آنذاك، الذي كان قد غادر المكتب لإحضار بعض الوثائق بطلب من المرحوم زهاء الحمود. كما نجا الشيخ خلف المكيد الخلايلة، الذي غادر المبنى بعد مكالمة هاتفية أجراها معه الشهيد المجالي للتوجيه بتسهيل معاملته لدى وزير الزراعة.